مقتضى القاعدة في تعارض الإطلاق الشمولي والبدلي  – بقلم الشيخ حسن عبد الله الهودار

   مقتضى القاعدة في تعارض الإطلاق الشمولي والبدلي

النقطة الأولى : تاريخ المسألة أصولياً
بعد التتبع للكتب الأصولية لأصحابنا  أول  من وجدته تعرض لمسألتنا الفاضل التوني في الوافية في مبحث اجتماع الأمر والنهي وقد تعرض لها بشكل إجمالي ص 92   وتلاه في ذلك المحقق القمي في القوانين بشكل مجمل أيضاً في مبحث اجتماع الأمر والنهي ص ١٥٣ وهكذا صارت تطرح في الكتب الأصولية حتى أبدع في تفصيلها المحقق النائيني كما في أجود التقرير فصار كلامه في المسألة هو مركز بحث الأعلام ورحاه

النقطة الثانية : مواطن طرح المسألة :
بحسب التتبع القاصر يمكن القول بأن الأعلام تعرضوا للمسألة في ثلاثة مواطن أعرضها مع نقل بعض المصادر التي تعرضت لذلك لأجل تسهيل المراجعة لمن أراد  :
1- مبحث الواجب المشروط
فقد تعرض الشيخ الأعظم لذلك حينما بحث حول دوران القيد بين رجوعه للهيئة أو للمادة كما في مطارح الأنظار ص٦٧ وكذلك الآخوند في الكفاية ص ١٠٥ وكذلك النائيني في أجود التقريرات ج١ ص١٦٣  والسيد الإمام في تهذيب الأصول ج١ ص ١٨٧
2-  مبحث اجتماع الأمر والنهي
فقد تعرض النائيني للمسألة حينما بحث عن ترجيح جانب النهي على الأمر بناءً على الإمتناع في أجود التقريرات ج١ ص ٣٥٧ وكذلك السيد الخوئي في المحاضرات ج٣ ص ١٢٣ وكذلك السيد الشهيد في البحوث ج٣ ص ٧٦
٣- مبحث التعارض
فقد تعرض لها المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج٥ ص ١٥٠ وهكذا السيد الخوئي في المصباح ج٣ ص ٣٧٨ وكذلك الروحاني في المنتقى ج٧ ص ٣٢٩ والسيد الصدر في البحوث ج٧ ص ٢٨٣

النقطة الثالثة : الفرق بين الإطلاق الشمولي والبدلي
قسم الأعلام الإطلاق إلى تقسيمات عديدة منها انقسامه إلى شمولي وبدلي وبما أن بحثنا حول هذين القسمين فلابد من بيان المقصود منهما :
الإطلاق الشمولي : هو الذي يدل على استيعاب جميع أفراد الطبيعة كقوله تعالى ((أحل الله البيع)) حيث يدل على حلية جميع أفراد البيع ومن قبيل (( أكرم العالم )) حيث يدل على وجوب إكرام جميع أفراد العالم
الإطلاق البدلي : هو الذي يدل على فرد واحد من الطبيعة على سبيل البدل كقوله تعالى (( فتحرير رقبة )) حيث يدل على لزوم عتق رقبة واحدة من بين الرقاب على سبيل البدل ومن قبيل (( أكرم عالما)) حيث يدل على وجوب إكرام عالم واحد على سبيل البدل

النقطة الرابعة : الأقوال :
إن القاعدة عندهم فيما إذا كان التعارض بين الدليلين على نحو العموم والخصوص من وجه هي التساقط إلا أنهم استثنوا من ذلك بعض الموارد كما لوكان أحد الدليلين حاكما على الاخر أو كان أحدهما أظهر من الاخر وقد وقع البحث بينهم في التعارض بين الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي كما لو وقع التعارض بين ((لاتغصب)) الشمولي و ((صل )) البدلي فاجتمعا في الصلاة في المكان المغصوب فمقتضى (لا تغصب )عدم الصلاة في المكان المغصوب ومقتضى (صل ) هو الصلاة فيقع حينها التعارض بين اطلاقي الدليلين فماهو مقتضى القاعدة عند المعارضة بين هذين الاطلاقين ؟ وبعد الملاحظة في كلمات الأعلام يظهر بأنهم افترقوا إلى قولين
القول الأول : تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي
وهذا هو المشهور وهو مختار الشيخ الأعظم والمحقق النائيني والسيد الروحاني والشهيد الصدر في مبحث التعارض من البحوث
القول الثاني : التساقط
وهذا هو خيرة الآخوند والمحقق العراقي والسيد الخوئي والسيد الإمام والسيد الصدر في مبحث اجتماع الأمر والنهي من البحوث

النقطة الخامسة   : الوجوه المستدل بها على تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي
ذكرت عدة وجوه لتقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي وسوف نتعرض لذكر المهم منها فان تم شيء منها كان مقتضى القاعدة هوتقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي وان لم يتم شيء منها كانت القاعدة هي التساقط

الوجه الأول  :
ما يستفاد من كلمات الفاضل التوني في الوافية ص٩٢ وحاصله بحسب ماجاء في كلماته  في مقدمات ثلاث :
المقدمة الأولى : الفرق بين الأمر والنهي
إن الفرق بين الأمر المتعلق بالوضوء (( توضأ )) والنهي المتعلق بالغصب  (( لاتغصب ))هو أن الأمر يتحقق بواحد من جزئياته (أفراده)  وأما النهي فهو كلي متعلق بجميع جزئياته (أفراده)
وبعبارة أصولية حديثة إن الأمر متعلق بصرف الطبيعة وأما النهي فهو انحلالي لجميع الأفراد

المقدمة الثانية : الوجوب التخييري في الأمر
إن حقيقة هذا الأمر الواحد المتعلق بالوضوء هو وجوب تخييري متعلق بجميع أفراد  الوضوء فللمكلف  أن يختار أي حصة لإمتثال هذا الوجوب التخييري

المقدمة الثالثة : امتناع التخيير في الفرد المبغوض
بما أن الشارع المقدس حكيم فيمتنع صدور  التخيير منه بإمتثال هذا الأمر الواحد بالوضوء بالحصة المبغوضة عنده لأن لازم هذا التخيير هو أن يكون هذا الفرد من الوضوء الغصبي محبوباً ومبغوضاً مراداً وغير مراد وهو باطل
والنتيجة من هذه المقدمات هو اختصاص الوجوب التخييري في الأمر بالوضوء بالفرد غير المحرم فلايشمل  هذا الأمر الوضوء بالماء المغصوب وهذا هو عبارة عن تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي

ويلاحظ عليه :
أولاً
يمكن التأمل في المقدمة الثالثة التي أفادها فيقال إما أن يكون مقصوده من امتناع التخيير في الحصة المبغوضة يعني أن الأمر بالوضوء من الأول لا يشمل الوضوء الغصبي بحيث يكون (( لاتغصب )) هادماً لأصل ظهور الأمر في الإطلاق البدلي لجميع الحصص كما هو الحال في القرينة المتصلة أو المنفصلة على بعض المباني وهذا مخالف لمبناه لأنه لايرى القرينة المنفصلة هادمة لأصل الظهور مضافاً لما سنذكره على المحتمل الثاني
وإما أن يكون مقصوده يعني أن الأمر في نفسه شامل بإطلاقه للوضوء الغصبي غاية الأمر جاء المقيد المنفصل فهدم حجية هذا الظهور
وهذا يرد عليه بأن مجرد المبغوضية لاتصلح أن تكون قرينة لتقديم النهي على الأمر فلماذا لا يقال بالعكس وأنه حيث كان الأمر في نفسه شاملاً لجميع الحصص فهو دال على محبوبية الوضوء الغصبي فإذا دل على ذلك انهدم ظهور لاتغصب عن الشمول للوضوء الغصبي

وثانياً
يمكن التأمل في المقدمة الثانية أيضاً حيث أفاد بأن الأمر بالوضوء يرجع لوجوب تخييري وهذا أمر يحتاج إلى التأمل فنقول
إن كان مراده من الوجوب التخييري هو المعنى المصطلح لدى الأصوليين ولعله هو الظاهر من كلامه حيث نسب التخيير في الحصص إلى الشارع نفسه فهذا لايخلو من التسامح   وذلك لأن حقيقة الوجوب التخييري كما ذكر في محله إما  وجوبات مشروطة بعدد الحصص فيقال مثلاً يجب عليك الإطعام إن تركت الصيام ويجب عليك الصيام إن تركت الإطعام  أو يقال يجب عليك الإطعام إذا اخترته ويجب عليك الصيام إذا اخترته
أو أنه وجوب واحد متعلق بالجامع كما هو الصحيح فيقال يجب عليك أحد هذين الفردين من الصيام والإطعام
وعلى كلا هذين التفسيرين تكون الحصص ملحوظة في الدليل إما بشكل تفصيلي كما في الوجوبات المشروطة أو بشكل إجمالي كما في وجوب الجامع فإنه مشير لأفراده ولكن  كلا هذين التفسيرين لا ينطبقان على المقام لأن غاية ماجعله الشارع وتعلق به أمره في قوله (( توضأ )) هو صرف الطبيعة ولم يصدر منه تخيير في الأفراد كما هو مدعاه وإنما هذا التخيير أو الترخيص منتزع عقلي وليس مجعولاً شرعياً
وإن كان مراده من الوجوب التخييري هو معنى آخر بمعنى الترخيص في التطبيق ليس إلا فهذا ليس وجوباً تخييرياً شرعياً كي يقال بأنه يمتنع صدوره من الشارع الحكيم في الحصة المبغوضة

وثالثاً
إن هذه النكتة التي تمسك بها على فرض القبول بها جدلاً فهي لاتصلح للتقديم في جميع الموارد فمثلاً لاتنفع فيما لوكان المطلق الشمولي ترخيصياً أو كراهتياً من قبيل (( أكرم عالماً )) (( لايجب إكرام أي أحد ))  و في التوصليات لا تأتي مثل (( اغسل ثوبك )) و (( لاتغصب )) فهنا إطلاق شمولي وبدلي ومع ذلك لو غسل المكلف ثوبه بالماء المغصوب يراه  العرف ممتثلاً للأمر ومشمولاً له و لايرى أن نكتة المبغوضية مبرراً لتقديم النهي على البدلي  لأن المبغوضية إنما تمنع من التقرب فقط وليست سبباً للتقديم ومركزاً لعلاج التعارض الإثباتي ونحن نحتاج إلى قرينة عرفية لتقديم المطلق الشمولي في جميع الحالات سواءً في التعبديات أو التوصليات وسواءً كان الموجود الخارجي متحداً أو متعدداً فلاحظ جيداً

الوجه الثاني  :
ماطرحه النائيني  في أجود التقريرات ج١ ص١٦٢ وحاصله في مقدمتين :
المقدمة الأولى :  انحلال الشمولي دون البدلي
إن الإطلاق الشمولي ينحل إلى دلالات ضمنية عديدة بعدد الأفراد فقول الشارع مثلاً(( لاتغصب )) ينحل بعدد أفراد الغصب  بخلاف  الإطلاق البدلي فهو يتكفل بيان صرف وطبيعي الحكم ولاعلاقة له بالأفراد فقول الشارع مثلاً
(( صل )) غاية مايدل عليه وجوب صرف الصلاة ولا ينحل بعدد أفراد الصلاة

المقدمة الثانية : نكتة التقديم
إننا لوقيدنا الإطلاق الشمولي بالإطلاق البدلي فهذا يوجب التصرف في دليل النهي ( لاتغصب ) و رفع اليد عن بعض مدلوله والتنازل عن حصة من دلالاته الضمنية ولكن لو قيدنا الإطلاق البدلي بالإطلاق الشمولي فلم نتصرف في دليل الأمر ( توضأ )  ولم نرفع اليد عن شيء من مدلوله ولم نسقط بعض دلالاته الضمنية وذلك لأنه متعلق بصرف الطبيعة على البدل  وهذا المدلول مازال محفوظاً حتى مع التقييد وغاية مايلزم من هذا التقييد هو التضييق في دائرة الترخيص بعدما كانت وسيعة
وبكلمة حاسمة واضحة إذا دار الأمر بين التصرف في الحكم ورفع اليد عنه وبين رفع اليد عن التوسعة مع المحافظة على الحكم تعين الثاني وبذلك يتعين تقديم الإطلاق الشمولي  لأننا لو قدمناه لم نتصرف في الحكم المفاد من الإطلاق البدلي بل تصرفنا في سعته وأما لوقدمنا الإطلاق البدلي على الشمولي فنكون قد تصرفنا في أصل الحكم المفاد في الإطلاق الشمولي

وأشكل عليه بعدة إشكالات :
الإشكال الأول :
ماذكره جماعة كالسيد الخوئي في المحاضرات ج٢ ص٣٤١ وهو أن تقييد أحد الإطلاقين بالآخر لابد أن يرجع لنكتة عقلائية إما الأظهرية أو القرينية  وأما مجرد أن تقييد الشمولي يوجب تنازلاً عن بعض دلالاته التضمنية  بخلاف تقييد البدلي حيث لايوجب رفع اليد عن شيء من الدلالة ولاجزئها فهذا استحسان وليس نكتة عقلائية للتقديم

وأجاب عنه السيد الشهيد  :
بأن ظاهر المحقق النائيني أنه يدعي أن تقديم الشمولي على البدلي بهذه النكتة المذكورة هو مما تقتضيه الملاكات العقلائية في التقديم فهذه النكتة المذكورة واجدة لملاك القرينية والأظهرية في التقديم
أقول : الذي يظهر في النظر القاصر أن ما أفاده السيد الخوئي هو الصحيح ومدافعة السيد الشهيد غير مجدية في حل الإشكال وذلك أننا حينما نرجع للعرف لمعرفة القواعد العقلائية التي يعتمدون عليها في الجمع العرفي أو في تقديم دليل على آخر نجدها قواعد وملاكات واضحة ليس فيها ضبابية أو اغتشاش أو نزاع وهي مثلاً :
١- القرينية ٢- الأظهرية  ٣- اللغوية ٤- الأخصية  وليس منها هذه النكتة التي أفادها المحقق النائيني فهي ليست سوى تحليل عقلي
وأما ماذكره الشهيد الصدر من واجدية هذه النكتة لملاك القرينية والأظهرية فغير واضح وغير كاف

الإشكال الثاني :
ماذكره السيد الخوئي أيضاً في المحاضرات ج٢ ص ٣٤١ من أن الإطلاق البدلي ينحل بحسب المدلول الإلتزامي لدلالات ضمنية عديدة  أيضاً وذلك لأن الإطلاق البدلي هو في الواقع شمولي إذ أن حقيقة الإطلاق البدلي هو  الترخيص في التطبيق على أي فرد وهذا ينحل بعدد الأفراد غاية مافي الباب أن الإنحلال في الشمولي بالدلالة المطابقية وأما في  البدلي فبالدلالة الإلتزامية لأن جعل الحكم على صرف الوجود يستلزم عقلاً ثبوت الترخيص في التطبيق شرعاً وبالتالي فإذا قدمنا الشمولي نكون قد تنازلنا عن دلالات تضمنية في البدلي فتقديم أي من الإطلاقين سوف  يستوجب تنازلنا عن بعض مدلوله فتقديم الشمولي وتصرفه في دلالة البدلي بلا مرجح

وأجاب عنه السيد الشهيد
بأن دلالة المطلق على أحكام ترخيصية انحلالية بالدلالة العقلية  وليست ظهوراً لفظياً في الخطاب وهذا بخلاف الإطلاق الشمولي فإن دلالته على الشمولية عرفية ظاهرة من الخطاب فيكون تقديمه بمرجح

أقول : يظهر من خلال  التدقيق  أن المحقق النائيني والسيد الشهيد يوافقان السيد الخوئي في نقطة ويخالفانه في نقطة أخرى فيوافقانه في الإنحلالية في الإطلاق البدلي إلا أنهما يقولان بأن هذا انحلال عقلي لا يستلزم انحلالاً في المجعول الشرعي  وهو يدعي الملازمة ولذلك  أشكل على النائيني بعدم الترجيح لأحد الإطلاقين على الآخر
لأن الإنحلالية شرعية في الإطلاقين ومع غمض النظر حالياً عن ثبوت هذه الملازمة وعدمها إلا أن  الإنصاف  أن إشكال السيد الخوئي وارد لا محالة   وذلك لأن المحقق النائيني نفسه يلتزم بأن الإنحلال في الإطلاق الشمولي ليس مستفاداً من الدلالة اللفظية ولا من ذات الإطلاق بل  من مناسبة الحكم للموضوع أو العقل فقوله  في المقام بأن تقييد الإطلاق الشمولي يستلزم تصرفاً في الدلالة الضمنية يعني أنه يرى الملازمة بين المناسبة العقلائية أو العقلية المفيدة للإنحلال وبين الجعل شرعي   فإذا التزم بذلك في الإطلاق  الشمولي كان عليه أن الإلتزام به في الإطلاق البدلي أيضاً والنتيجة عدم المرجح لتقديم أحد الإطلاقين على الآخر لأن الإنحلال شرعي في كليهما
وبعبارة أكثر وضوحاً ودقة إما أن يقول المحقق النائيني بأن الإنحلالية شرعية في الإطلاق الشمولي والبدلي أو أن يقول بأنها عقلية في الإثنين وعلى كلا الوجهين لايصلح هذا الوجه الذي ذكره للترجيح وأما أن يقول بأنها انحلالية شرعية في الإطلاق الشمولي وانحلالية عقلية في الإطلاق البدلي فغير واضح

الإشكال الثالث :ماطرحه جمع من الأعلام كالسيد الإمام و السيد الشهيد بأن الشمولية والبدلية ليستا من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة فإن أقصى مايدل عليه الإطلاق هو  أن ما أخذ في الدليل موضوعاً للحكم هو تمام الموضوع ثبوتاً وأما الشمولية والبدلية فتستفاد من دال آخر عقلي أو لفظي فكما أن الحكم في (( صل )) منصب على الطبيعي فالحكم في (( لاتغصب )) منصب على الطبيعي وعليه فليست الإنحلالية مدلولاً لنفس الدليل  كي  يقال بتقديم الإطلاق الشمولي تحفظاً على دلالاته الضمنية

ويلاحظ عليه :
أولا :
إن هذا الإشكال وإن  قبلناه من السيد الإمام ولكن لا نقبله  من السيد الشهيد  وذلك لأنه خلاف مبناه  في بحث المطلق والمقيد حيث وافق هناك المحقق العراقي بأن مقتضى الإطلاق هو البدلية و أشكل
على المحقق الأصفهاني القائل بأن مقتضى الإطلاق هو الشمولية كما أشكل  على السيد الخوئي القائل بأن الإطلاق لايقتضي الشمولية ولا البدلية
وإشكاله هنا ليس من باب الإلزام للنائيني فحسب بل ظاهره الإلتزام بذلك  فلاحظ

وثانياً :
سلمنا بأن البدلية والشمولية تستفاد من دال آخر سياقي أو عقلي وليس من نفس الإطلاق إلا أن  المحقق النائيني يدعي   بأنه وإن كانت الإنحلالية في الإطلاق الشمولي ليست مدلولاً مستفاداً من ذات الإطلاق بل من قرينة خارجية عقلية أو سياقية غير  أن هذه القرينة تكفي لإثبات أن هذه الإنحلالية شرعية وليست عقلية  كالإطلاق البدلي  وبالتالي لابد من التحفظ على الإنحلالية الشرعية في الشمولي دون الإنحلالية العقلية في البدلي وهذا لا يتحقق إلا بتقديم  الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي

والمناسب في مناقشة النائيني هو ماذكرناه سابقاً بأنه يامحققنا النائيني أنت أمام خيارات ثلاثة :
الأول : أن تلتزم   بأن هذه الإنحلالية مستفادة من دال آخر فهي انحلالية عقلية  كالإنحلالية في الإطلاق البدلي  وبما أن كلا الإنحلاليتين عقلية فتقديم الإنحلالية في الشمولي عليها في البدلي مع تكافؤهما بأنهما عقليتان تحكم
الثاني : أن تلتزم  بأنها وإن كانت مستفادة من دال آخر إلا أنها انحلالية شرعية فنقول الكلام هو الكلام في الإطلاق البدلي فإنحلاليته وإن كانت مستفادةً من دال آخر إلا أنها انحلالية شرعية ومع التكافؤ يكون تقديم الشمولي على البدلي تحكم
الثالث : أن تلتزم بأن هذه الإنحلالية شرعية في خصوص الشمولي وعقلية في خصوص البدلي وهذا مضافاً إلى عدم وضوح نكتة عقلائية له فإنه تحكم فلماذا لايقال بأن الإنحلالية في الشمولي عقلية وهي شرعية في البدلي
:
الوجه الثالث  :ماذكره النائيني  في أجود التقريرات  وحاصله في مقدمات ثلاث :
المقدمة الأولى : ماهي مقدمات الحكمة
اختلف الأعلام في عدد مقدمات الحكمة إلا أن المحقق النائيني  يرتأي بأنها ثلاث مقدمات وهي :
الأولى :أن يكون متعلق الحكم أو موضوعه قابلاً للإنقسام إلى قسمين في مرتبة سابقة على تعلق الحكم به وأما لو لم يكن قابلاً لذلك  فإنه  يستحيل التقييد وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق وهذا من قبيل  أخذ قيد قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر  وهكذا بالنسبة إلى تقيد الحكم بالعلم به
الثانية :كون المتكلم في مقام البيان من ناحية الجهة التي نريد التمسك بالإطلاق فيها وليس في مقام الإجمال أو الإهمال
الثالثة :أن لا يأتي المتكلم بقرينة متصلة أو منفصلة  فإن القرينة المتصلة تهدم ظهور الكلام (( الدلالة التصورية )) والمنفصلة تمنع انعقاد الظهور التصديقي الكاشف عن مراد المتكلم  (( الدلالة التصديقية الثانية ))
وأضاف صاحب الكفاية مقدمة أخرى وهي عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب إلا أن النائيني لم يقبل بذلك

المقدمة الثانية : مقدمة رابعة في الإطلاق البدلي
يدعي المحقق النائيني بأن هناك فرقاً بين الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي فالشمولي يتوقف على المقدمات الثلاث السابقة وأما الإطلاق البدلي فيحتاج إلى مقدمة رابعة  وهي  إحراز تساوي أفراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها فلكي نستفيد من  (( توضأ )) الإطلاق والترخيص في تطبيق الوضوء على أي حصة  لابد من إحراز التساوي بين جميع حصص الوضوء  وعدم تميز حصة على أخرى

المقدمة الثالثة : الإطلاق الشمولي يمنع المقدمة الرابعة في الإطلاق  البدلي
إن الإطلاق الشمولي في (( لاتغصب ))  يكشف عن  عدم تساوي الحصص في الإطلاق البدلي (( توضأ ))  فهو يدل بإطلاقه على مبغوضية  كل حصة  من الغصب ولو كانت هذه الحصة هي الوضوء الغصبي  وبالتالي لايمكن إحراز مساواة هذه الحصة من الوضوء الغصبي لغيرها من حصص الوضوء كي يشملها الإطلاق البدلي في (( توضأ ))
ونتيجة هذه المقدمات تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي لأنه مانع من تحقق المقدمة الرابعة في الإطلاق البدلي وهي المساواة

وأشكل عليه بالتالي  :

الإشكال الأول :ماذكره جماعة كالسيد الخوئي والسيد الإمام وهو أنه يمكن إحراز التساوي من نفس عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد  خاص  بلا حاجة لمقدمة خارجية ولذلك لو شككنا في تعين  فرداً من الأفراد لإحتمال أن الملاك فيه أقوى من غيره دفعنا ذلك الإحتمال بالإطلاق فالإطلاق بنفسه يحرز لنا  التساوي  وعليه فالإطلاق البدلي ثابت وليس الإطلاق الشمولي مانعاً منه

ويلاحظ عليه :
أن النائيني كلامه واضح بأن الإطلاق البدلي يتوقف على إحراز المساواة سواءً من خلال عدم تقييد المولى بقيد متصل أو بقيد خارجي منفصل أيضاً كما هو مبناه في أن القرينة المنفصلة تهدم الظهور فيقول النائيني أتفق  معكم  بأنه لو اقتصرنا على عدم  وجود قيد متصل بقوله (( توضأ)) فسوف نحرز تساوي جميع الحصص  بنفس عدم التقييد  ولكننا نقول  إحراز التساوي يتوقف على عدم وجود قيد متصل ومنفصل أيضاً فبعد مجيء قيد منفصل وهو (( لاتغصب )) وهو انحلالي  شامل للوضوء الغصبي فبذلك لم نحرز تساوي الحصص في (( توضأ )) لتشمل حتى حصة الوضوء الغصبي وعليه فيكون التقديم للإطلاق الشمولي في (( لاتغصب )) على الإطلاق البدلي في (( توضأ ))

الإشكال الثاني : وهو مايخطر في الذهن القاصر بما يشتمل على أمور ثلاثة  :
أولاً :
إن هذه المقدمة التي عبر عنها المحقق النائيني بأنها مقدمة إضافية  فهي في الواقع  ليست مقدمة جديدة تضاف لمقدمات الحكمة بل هي نفس المقدمة الثالثة التي ذكرها وهي عدم القرينة المتصلة والمنفصلة
وثانياً :
على فرض كون إحراز التساوي بين الحصص مقدمةً جديدة نقول بأنه لامعنى لتخصيص هذه المقدمة بالإطلاق البدلي فينبغي تسريتها حتى للإطلاق الشمولي فنقول بإن شمول (( لاتغصب )) لجميع حصص الغصب يتوقف على تساويها وأما لو كانت هناك حصة ذات خصوصية معينة  فإن النهي قد لايسري إليها
وثالثاً
نقول مع وجود الإطلاق البدلي ل (( توضأ )) وهو منحل وشامل في نفسه  للوضوء الغصبي
فبتالي لم يحرز مساواة هذه الحصة من الغصب لبقية الحصص كي يشملها النهي فكما أنه بورود النهي (( لا تغصب ))  لم يحرز مساواة هذه الحصة من الوضوء الغصبي لبقية الحصص فلايحرز شمول الأمر لها فكذلك بورود الأمر
(( توضأ)) لم يحرز مساواة هذه الحصة من الغصب لبقية الحصص فلايحرز شمول النهي لها فالمعارضة بين الإطلاقيين مستحكمة فبأي وجه يقدم الشمولي على البدلي مادامت نكتة إحراز المساواة  تعم الإطلاقين
والمتحصل عدم تمامية هذا الوجه

الوجه الرابع : ماذكره الشهيد الصدر توجيهاً لكلام المحقق النائيني بحسب مبنى النائيني وحاصله في مقدمات ثلاث  :
المقدمة الأولى : اختصاص الأمر بالحصة المقدورة
ذكر الأعلام في بحث اشتراط التكليف بالقدرة  أنه توجد ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يتعلق التكليف بالجامع سواءً على نحو الإطلاق الشمولي (( أكرم العالم )) أو على نحو الإطلاق البدلي (( أكرم عالماً )) مع عجز المكلف عن إكرام جميع حصص العالم وذلك لمرضه مثلاً فهنا  اتفق الأعلام جميعاً على استحالة التكليف لعجز المكلف عن امتثال أي حصة
الحالة الثانية : أن يتعلق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي  (( أكرم العالم )) مع عجز المكلف عن إكرام بعض الحصص كالعلماء النجفيين ويمكنه إكرام العلماء القميين  وهنا اتفق الأعلام على استحالة التكليف  بإكرام جميع الحصص بل هو مختص بالحصص المقدورة فيختص الأمر بإكرام القميين ولا يشمل النجفيين لأجل العجز عنهم
الحالة الثالثة : أن يتعلق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق البدلي (( أكرم عالماً ))  مع عجز المكلف عن إكرام بعض الحصص كالعلماء النجفيين ولكن يمكنه إكرام العلماء القميين  وهنا اختلف النائيني مع بقية الأعلام فالمشهور يقولون بإمكان تعلق التكليف بالجامع الذي يشمل جميع الحصص المقدورة وغير المقدورة لأن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور فالأمر بطبيعي الإكرام هنا يشمل جميع العلماء حتى العلماء النجفيين مع عجز المكلف عن إكرامهم  ولكن  المحقق النائيني يقول بأن الأمر يختص بالحصص المقدورة عقلاً وهي  حصة العلماء القميين فلايشمل الأمر العلماء النجفيين  وذلك لأن الأمر مجعول بداعي البعث والتحريك  فيختص التكليف بالجامع المقدور الذي  تكون جميع حصصه مقدورة  ويمكن التحريك نحوها  وهذه الحالة الثالثة هي التي ترتبط ببحثنا فارتقب

المقدمة الثانية : لافرق بين القدرة عقلاً وشرعاً
يقول النائيني بأنه كما أن الأمريختص بالحصص المقدورة عقلاً فهو كذلك يختص بالمقدورة شرعاً  لأن الممتنع  شرعاً كالممتنع عقلاً

المقدمة الثالثة : التطبيق على المقام
ذكرنا في المقدمة الأولى أنه توجد حالات ثلاث للتكليف في صورة عدم القدرة والحالة الثالثة وهي فرض تعلق الأمر بالجامع على نحو الإطلاق البدلي هي التي ترتبط بمقامنا فنقول
لدينا إطلاق بدلي وهو (( توضأ )) وهو بإطلاقه يدل على جواز تطبيق الوضوء على أي حصة من الحصص ولكن في المقابل لدينا إطلاق شمولي
(( لاتغصب)) و مقتضاه ثبوت الحرمة لكل حصة حتى  حصة الوضوء الغصبي  فبعد شمول النهي لحصة الوضوء الغصبي تكون هذه الحصة محرمة شرعاً فهي ليست بمقدورة شرعاً  ومع عدم القدرة عليها شرعاً فإن الأمر البدلي بالوضوء لايشملها  بل هو مختص بالحصص المقدورة عقلاً وشرعاً   فبذلك يكون  الإطلاق الشمولي وارداً على الإطلاق البدلي رافعاً لموضوعه فلاحظ

وأشكل على هذا الوجه بإشكالات  :

الإشكال الأول :ماذكره السيد الشهيد وهو عدم تمامية هذه الكبرى فإن الحصة وإن لم تكن بخصوصها مقدورة إلا أن الأمر متعلق بالجامع المقدور والجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور وبالتالي فتكون الحصة المحرمة شرعاً داخلةً في نفسها ضمن الأمر  فتتحق المعارضة  وهذا الإشكال مبنائي فلاحاجة للمناقشة فيه حالياً

الإشكال الثاني : ماذكره السيد الشهيد وهوأن هذا الوجه  أخص من المدعى  فهو مختص بما إذا كان المطلق الشمولي متضمناً لحكم الزامي وأما لوكان المطلق الشمولي مشتملاً على حكم ترخيصي  أو على الكراهة فلايكون  وارداً على المطلق البدلي وهذا نظير (( أكرم عالماً )) و (( لايجب إكرام أي أحد )) فهنا المطلق الشمولي ترخيصي ولا يصلح أن يتقدم على المطلق البدلي بهذه النكتة المذكورة  وهي أن تكون الحصة مقدورة شرعاً أي غير محرمة لأنه لاحرمة في البين حتى يقال بورود المطلق الشمولي على البدلي فماهو وجه تقديم الشمولي على البدلي في هذه الصورة
وهذا الإشكال تام

الإشكال الثالث : مايخطر في الذهن القاصر وهو أنه حتى لو قبلنا بهذه الكبرى التي ذكرها النائيني وهي أن الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً  إلا أن الصغرى غير متحققة في المقام وذلك لأن مورد هذه القاعدة هو ما إذا أحرز وجود الحرمة فهنا يقال بأن الأمر لايشمل هذه الحصة المحرمة شرعاً ولكن المفروض عدم إحرازها لعدم دليل على حرمتها بالخصوص وإنما حرمتها مبنية على ثبوت الإطلاق لها  ومع معارضة هذا الإطلاق الشمولي بالإطلاق في البدلي فلم تثبت الحرمة بعد كي تكون واردةً على الترخيص في الإطلاق البدلي فلاحظ

الوجه الخامس :  ماذكره السيد الصدر أيضاً توجيهاً لكلام النائيني وحاصله في مقدمتين :
المقدمة الأولى : تقديم الإلزامي على الترخيصي
إن من قواعد الجمع العرفي كبرى تقديم دليل  الحكم الإلزامي على دليل الحكم الترخيصي عند التعارض  بدعوى أنه لايستفاد من الدليل الترخيصي عرفاً أكثر من إثبات الترخيص لعدم المقتضي في ذلك العنوان الترخيصي للإلزام فلاينافي ثبوت حكم إلزامي بعنوان آخر منطبق عليه وهذا من قبيل أن يرد دليل ترخيصي يدل على جواز شرب الحليب مطلقاً ويرد نهي عن الغصب فإن دليل جواز شرب الحليب يدل على أن الحليب بماهو حليب ليس حراماً وهذا لا ينافي حرمة شربه بعنوان آخر ككونه مغصوباً أو مضراً فلو وقع المكلف في شرب الحليب المغصوب  فهنا القاعدة تقتضي تقديم دليل التحريم على دليل الترخيص

المقدمة الثانية : التطبيق على المقام
إن مقامنا هو صغرى لهذه الكبرى فإن الإطلاق البدلي يستبطن الترخيص في الحصص فهو دليل ترخيصي وأما الإطلاق الشمولي فهو إلزام بالترك
فعند التعارض بين (( توضأ )) الترخيص و (( لاتغصب )) التحريمي في الوضوء الغصبي فإن دليل (( توضأ )) يثبت جواز الوضوء بهذه الحصة من الماء بماهو وضوء وهذا لا يمنع من حرمته لو انطبق عليه عنوان آخر كعنوان الغصب فحينما يتوضأ المكلف بالماء المغصوب يكون التقديم بصالح دليل النهي لكونه إلزامياً وبذلك يتقدم الإطلاق الشمولي على البدلي

وأشكل عليه بإشكالات

الإشكال الأول : ماذكره السيد الشهيد وهو أن  هذا الوجه أخص من المدعى لأنه يختص بموارد وجود المندوحة  و لايتم فيما إذا لم تكن مندوحة كما لو انحصر الوضوء أو  الصلاة  مثلا بحصة معينة   لأنه مع عدم المندوحة فإن دليل الإطلاق البدلي يتعين  في هذه  الحصة فلاترخيص في غيرها  وهذه الحصة  بعينها هي  مورد للنهي الشمولي وبالتالي يكون كلا الحكمين إلزامياً وليس أحدهما ترخيصياً والآخر إلزامي كي يتقدم الإلزامي على الترخيصي

ويلاحظ عليه :
أنه يمكن التأمل بأن يقال لافرق  بين صورة وجود المندوحة وعدم المندوحة وذلك لأن تأثير عدم المندوحة يرتبط  بعالم الإمتثال وليس بعالم الجعل فبعدما  افترضنا التخيير الشرعي في تطبيق الوضوء على أي حصة  فإن  طرو الإنحصار خارجاً  لايقلب الشيء عما وقع عليه فإن الأمر (( توضأ )) كان مرخصاً وهو باقي على حاله من الترخيص  غاية الأمر هو  تعينها في مقام الإمتثال وهذا  لايعني  تعينها في مقام الجعل   كي يقال بأن المعارضة بين دليلين إلزاميين بل  المجعول الشرعي هو  التخيير وإن تعين الإلزام بهذه الحصة خارجاً ولكن المناط على عالم الجعل لا الإمتثال فيمكن تطبيق القاعدة وهي تقديم الإلزامي على الترخيصي مع المندوحة وعدمها

الإشكال الثاني :  ماذكره السيد الشهيد وهو بأن هذه الكبرى لاتنطبق على المقام أصلاً   لأن المفروض دلالة الدليل البدلي على الحكم الإلزامي  وهذا الترخيص  المدعى وضعي عقلي وليس شرعياً ومورد القاعدة أن يجتمع ترخيص وإلزام شرعيان
ويمكن هنا إبداء ملاحظة بأنه مادام العقل يحكم بالترخيص فهذا يستلزم الترخيص الشرعي ولو في عالم الملاك والإرادة دون عالم الجعل وهذا ماذكره السيد الشهيد نفسه في مبحث التخيير في الواجب وبناءً على ذلك يكفي ذلك في ثبوت التخيير الشرعي فلاحظ

الإشكال الثالث : مايخطر في الذهن القاصر وهو أن هذه الكبرى المدعاة وهي تقديم الدلي الإلزامي على الترخيصي بدعوى أن المستفاد من الدليل الترخيصي عدم المقتضي للإلزام وهذا لاينافي ثبوت الإلزام بعنوان آخر غير ثابتة من الأصل فتطبيقها في المقام غير مفيد بل الصحيح أن تقديم دليل على آخر يرجع للمرتكزات العقلائية في علاج التعارض وهذا يختلف من مورد إلى آخر ففي بعض الموارد قد يقدم الدليل الترخيصي على الإلزامي وفي موارد أخرى قد يكون العكس

الوجه السادس :
ماذكره  السيد الصدر في بحوثه ج٧ ص٢٨٦ وحاصله في مقدمات ثلاث  وإن كان في عبارته غموض
المقدمة الأولى : تقديم الأظهر على الظاهر
إن من قواعد الجمع العرفي تقديم الأظهر على الظاهر وقد ذكرت لذلك  عدة توجيهات ليس المقام للخوض فيها إلا أن العمدة هو  كون تقديم الأظهر  على الظاهر لأجل التزاحم بين الظهورين التصوريين أو الظهوريين التصديقين لكليهما  فتكون الغلبة بصالح الظهور التصوري والظهور التصديقي للدليل الأقوى ظهوراً

المقدمة الثانية  : الإرتكاز أو التعهد العقلائي
إن التأمل في المرتكز العقلائي يرشدنا إلى أن هناك تعهداً عقلائياً  أو غلبةً خارجيةً  على اهتمام المتكلم  النوعي ببيان أصل حكمه  أكثر من اهتمامه ببيان حدوده وتطبيقاته سعةً وضيقاً

المقدمة الثالثة : حدود الشمولي و البدلي
إن الإطلاق الشمولي في  (( لاتغصب )) يتكفل  ببيان الحكم  بحدوده وذلك  لأنه ينحل  إلى أحكام تحريمية شرعية عديدة بعدد أفراد الغصب  فكلما وجد غصب في الخارج انحل ناحيته خطاب
(( لاتغصب )) وأما البدلي (( توضأ ))  فلايتكفل إلا حكماً واحداً وهو أصل مطلوبية الوضوء على نحو صرف الوجود  ولاينحل إلى طلب الوضوء بكل حصة وماهذه  الترخيصات الإنحلالية في تطبيق الوضوء  إلا أحكام وضعية انتزاعية مستفادة بالدلالة الإلتزامية مرشدةً   إلى احتواء كل حصة من حصص الوضوء على الملاك وليست ترخيصات مدلولة  للخطاب
ونتيجة هذه المقدمات أن يقال :  بأن مقامنا صغرى لكبرى تقديم الأظهر على الظاهر فإن الإطلاق الشمولي أقوى وآكد ظهوراً من الإطلاق البدلي  وذلك لأنه متكفل لبيان الحكم بحدوده بخلاف الإطلاق البدلي فهو متكفل لبيان أصل الحكم دون حدوده وتطبيقاته فيتقدم الشمولي عليه عند المعارضة في الوضوء الغصبي
وإن شئت فقل بأن دلالة الشمولي على الحرمة في الوضوء الغصبي دلالة مطابقية وأما دلالة البدلي على الترخيص في الوضوء الغصبي فهي دلالة التزامية فيتقدم الشمولي لأنه أقوى ظهوراً من البدلي في بيان حكم هذه الحصة فلاحظ وتأمل

ويلاحظ عليه :
أولاً :  إن هذا خلاف ماصرح به السيد الشهيد نفسه في البحوث ج٣ ص ٧٧ حيث قال (( أما البحث عن كبرى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي فقد تعرضنا له مفصلاً في موضعه من بحوث  تعارض الأدلة  وأثبتنا هناك أنه لا وجه  فني لهذه القاعدة المتداولة على الألسن ))  فلاحظ

وثانياً : إن ماذكره في المقدمة الثانية ((بأن هناك  تعهداً  عقلائياً أو غلبةً خارجية بأن المتكلم يهتم ببيان أصل حكمه أكثر من اهتمامه ببيان حدوده )) مجرد دعوى لم نتحققها وعلى فرض جريان المرتكز العقلائي على هذه الطريقة فلانسلم جريان الشارع الأقدس عليها  فلعل الشارع يرى بأن بيان حدود الحكم وتطبيقاته ليس بأقل أهمية أو أكثر أهمية من بيان أصل الحكم ومع التشكيك في أصل هذه الدعوى التي شيد الدليل عليها ينهدم الدليل من رأس

وثالثاً  :  إن  ربط المسألة بالظاهر والأظهر  يعتمد على المبنى  في حقيقة الإطلاق فتوجد ثلاثة مباني :
١- أن الإطلاق بالوضع وهو مبنى المشهور وهنا يمكن القول بتقديم الأظهر على الظاهر لأن الإطلاق مدلول وضعي لفظي
2- أن الإطلاق بمقدمات الحكمة المعتمدة على الظهور الحالي السياقي وهنا يمكن القول بتقديم الأظهر على الظاهر
3- أن الإطلاق بمقدمات الحكمة العقلية و أن استفادة  الإنحلالية بحكم العقل لا بالوضع ولا بالظهور السياقي  فهنا لا يأتي القول بتقديم الأظهر على الظاهر لأن استفادة السريان والإنحلالية لاتعتمد على حجية الظهور ولايبعد أن التفسير الأخير هوالصحيح  وبالتالي لاربط لأقوائية الظهور بالمقام فتأمل

ورابعاً  : على فرض التسليم بإرتباط المسألة بالظاهر والأظهر إلا أن قوله  (( بأن الإطلاق الشمولي يتصدى لبيان الحكم وحدوده بخلاف الإطلاق البدلي فهو يتصدى لبيان أصل الحكم فالإنحلالية في الشمولي بالمطابقة وفي البدلي بالإلتزام )) غير واضح  وذلك لأنه إن بنينا على كون الإطلاق وضعياً  فالإنحلالية بالمطابقة في الإثنين وإن بنينا على كونه حالياً سياقياً فهي بالإلتزام في الإثنين
وخامساً :  بناءً على مبناه من أن الإنحلال في المجعول لا الجعل لاوجه واضح للقول بأن الإنحلالية في الشمولي مطابقية فضلاً عن كونها أقوى ظهوراً فلاحظ

الوجه السابع : ماذكره السيد الروحاني في المنتقى ج٧ ص ٣٣٢ وحاصله في مقدمتين :
المقدمة الأولى : السيرة العملية
لاشك ولا ريب في جريان السيرة العملية على تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي عند التعارض وهذا أمر ثابت لايقبل الإنكار ولذا لاتجد أحداً يتوقف في تقديم دليل (( لاتغصب )) على دليل وجوب الصلاة بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي

المقدمة الثانية : السر في هذه السيرة
لعل السر في  جريان السيرة على تقديم الإطلاق الشمولي في (( لاتغصب )) على الإطلاق البدلي في (( صل )) هو عدم التضاد بين هذين الحكمين أما بناءً على عدم التضاد بين الأحكام الا في مرحلة الامتثال فواضح اذ يمكن امتثال هذين الحكمين بلاتزاحم ولاتناف بينهما فلامانع من الإلتزام بكلا الإطلاقين غاية الأمر يحكم العقل بلزوم اختيار الفرد غير المحرم في مقام الإمتثال جمعاً بين الإمتثالين
وأما بناءً على التضاد بين الأحكام في أنفسها فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة بل ملاك التضاد لايشمل مانحن فيه لتعلق الأمر بالطبيعة على نحو البدلية وتعلق النهي بكل فرد فلا مجمع للحكمين ولو سلم التضاد أمكن العلاج بملاحظة مرجحات باب التزاحم فيقدم دليل الإطلاق الشمولي لإمكان امتثال البدلي في عير الفرد المحرم
والنتيجة هي تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي

ويلاحظ عليه :
أولاً
إن القول  بأن تقديم الشمولي على البدلي مماجرت عليه السيرة وأمر لايقبل الإنكار بلا شاهد بل الظاهر من خلال مراجعة الكتب الأصولية للأصحاب كالتذكرة والعدة والذريعة والمعارج والمبادئ والمعالم هو أن القاعدة في المتعارضين على نحو التباين الكلي أوالتباين الجزئي هي التساقط أو التخيير ولم يستثنوا من ذلك صورة تعارض الإطلاق الشمولي مع الإطلاق البدلي فلو كانت المسألة بهذا الوضوح الذي لايقبل الإنكار لكان ينبغي أن يكون لها عين أو أثر في كتب القدماء

وثانياً
هذا الشاهد الذي فرع عليه وهو عدم توقف أحد في تقديم (( لاتغصب )) على (( توضأ)) غير تام فإنه مضافاً إلى أن هناك من صحح الوضوء بالماء المغصوب  كالكليني والقمي  ومضافاً إلى كونه مورداً خاصاً لايصلح لتشكيل كبرى كلية فإن حكم المشهور ببطلان الوضوء بالماء المغصوب لعله لعدم إمكان التقرب بالمبغوض وليس لتقديم دليل النهي على الأمر فلاحظ

وثالثاً :
على فرض التسليم بجريان السيرة على تقديم الإطلاقالشمولي التحريمي على الإطلاق البدلي الترخيصي فلم يظهر تقديمها للإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي فيما لوكان الإطلاق الشمولي ترخيصياً أو كراهتياً

ورابعاً :
ما أفاده من السر في تقديم دليل النهي على دليل الأمر وهو عدم التضاد مع مافيه من المصادرة لاربط له ولا مساس له بالبحث فيما أفهم وليس للخوض في ذلك من سبيل

تم بحمدالله وفضله الفراغ  من هذا البحث وقد تعرضنا فيه لأهم الوجوه التي استدل بها الأعلام على تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي إلا أنه لم يتم شيء منها  فالصحيح  هو التساقط كما ذهب لذلك الآخوند والعراقي والخميني والخوئي  والله أعلم بحقائق الأمور
بقلم حسن عبد الله الهودار
1435 قم المقدسة

شاهد أيضاً

بحث حول غيبة المخالف – بقلم الشيخ حسن عبد الله الهودار  

غيبة المخالف يمكن أن نطرح  في هذا البحث عدة نقاط : النقطة الأولى : تاريخ المسألة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.